غيابك يشيّئني (من كتابي أحببتك فصرت الرسولة)

رجل وامرأة - بيكاسو

غيابك يشيّئني
أصير شيئًا في غيابك
شيئًا ما
بابًا
مشجبًا
طاولة
بيتًا متروكًا للسكوت بعدما هجره الشعر
أتجوّل في غرف ذاتي
فأرى وجهي في مرآة التصق بها غبارٌ يتأمّل غباءَه وهباءَه
ألمس إناء الزهر البِلا زهر فيناجيني خواؤه
أنظر إلى المقعد المكفّن بغطائه الأبيض
وأشعر بالحزن على لقاءاتِ حبّ ماتت في حضنه ولا تنتظر قيامة
تستيقظ أشباح الماضي في غيابك الذي يشيّئني
تولد من الغرف الباردة
وتسخر من شكلي الشبيه
بالمرآة الغبراء
والإناء الخاوي
والمقعد المكفّن
***
يخرج الشبح الأوّل من غرفة النوم ويقول لي:
"ألم تعدي نفسك بأنّك لن تنامي إلّا ومن تحبّينه يحتضن شوقك؟
أليس لأنّني لم أكن هذا الشخص تركتني؟
فما بالك اليوم وحيدة؟"
ويخرج الشبح الثاني من غرفة الطعام شامتًا
وهو يقول:
"ألم تطرديني لأنّني لم أجد الوقت لأكونَ معك إلى مائدة العيد
وقلتِ لي يومها:
من لا وقت عنده لي لا مكان له عندي؟
فكيف تقبلين بأن تكوني وحدك
وقد أهديت ذاك الرجل الأمكنة كلّها والأزمنة كلّها؟"
ويخرج الشبح الثالث من غرفة الجلوس
وهو يذكّرني بأنّني قطعت علاقتي به لأنّه لم يجالس حزني
ولم يسهر معي ليلة بكيت عجزًا وقهرًا وغضبًا
وها أنا عاجزة أمام المرض
مقهورة من عبث الحياة
غاضبة على كرويّة الأرض وتسطّح العقل
ومن أريده أن يجالسَ حزني ويمسحَ دمعتي ليس معي
الشبح الرابع يغنّي
وهو يؤكّد لي بأنّني ضيّعت في الأوهام عمري
والخامس يسألني عمّا حقّقته في الحياة
والسادس يدلّ الآخرين على تجاعيد وجهي وبياض الجذور في شعري المهمل
والسابع يذكّرني بأنّني مجرّد ناسكة في صومعة كلمات لا قيمة لها
تختلط أصواتهم في رأسي
ويذوب بياضهم في بياض الأكفان التي تغلّف المقاعد والطاولات التي تتحوّل بدورها أشباحًا راقصة صاخبة ساخرة
***
في غرف ذاتي الباردة عناكبُ تنسج بيوتها في الزوايا
تمدّ شباكَها لعلّها تلتقط حشراتٍ تنقذها من الجوع
على الجدران ترسم العفونة لوحاتٍ خطوطُها خضراءُ تتحوّل سوداء
ومفاصل الأبواب تئنّ من الرطوبة الدبقة وتؤلّف موسيقى تأنس إليها الأشباح
أنتظر دفء يدك يشعل عاطفةَ الجدران
يضخُّ المياهَ في شرايين البيت الجافّة
يزرع النور في ثريّات العمر المطفأة
يمسح الغبار عن مرايا الذاكرة
ينثر الورود في المزهريّات ويسقيها عشقًا
يحوّل أغطية المقاعد فساتينَ أعراس
ويطرّزها بخيوط الشمس التي فتح لها الأبواب والشبابيك
يفجّر شلالات الموسيقى في صحراء الصمت...
أنتظر وأنتظر وأنتظر
أصير شيئًا
شيئًا ما
شيئًا صغيرًا
شيئًا تافهًا
شيئًا لا مشيئة له
شيئًا لا يشاؤه الآخرون
شيئًا من مجموعة أشياء
***
يشيّئني غيابك
ويبلّد مشاعري الانتظارُ
فأتحوّل مرآة لم تعد تتوقّع وجهًا يقتحم الغبار
مزهريّة لا تريد حياة تشرئبّ بعنقها منها وتعانق السماء لساعات ثمّ تذبل
مقعدًا باردًا يتمسّك بالغطاء الأبيض ويلتفّ به لمجرّد أن يطمئنّ إلى أنّه ليس وحده
لا أشعر سوى بالبرد
الطقس دافئ وأنا محاصرة بثلج جسدي
والطرقاتُ إلى ذاتي مقطوعة بسبب الانهيارات
أرتدي كلّ الملابس التي في خزانتي ولا أشعر بالدفء
أتقوقع تحت أغطية الأسرّة فيزداد الصقيع في قلبي
أمزّق الستائر عن النوافذ وأختبئ فيها فيجد البرد وسيلة ليتسلّل إلى عظامي
أنظر إلى السجّادة الملفوفة في الركن
وأفكّر في أن جثّة مخبّأة فيها أسعدُ حظًا من جثّة مرمية على جانب الطريق
الأمور نسبيّة، أليس كذلك أيها العالم؟
وأنا الآن شيء
مجرّد شيء
وليس من المفروض أن أشعر بالبرد أو الحرّ أو الشوق أو الضجر
شيء لا يشبه لوحة ثمينة يخاف عليها مالكها من الضوء وتغيّرات الطقس
ولا يشبه إناء بلّوريًّا أثريًّا يُخشى عليه من عبث الأيدي
أو كمانًا مشغولاً بعناية وذوق وموهبة يطمع به جامعو القطع الفنيّة
أو خاتمًا لا مثيل لحجره الكريم
أو منحوتة نادرة يتسابق لاقتنائها أثرياء العالم
أنا قطعة من ملايين القطع الصينيّة الرخيصة التي تبصقها ملايين المعامل على أرصفة الشوارع
التي لا تشبه في شيء خزفيّات تلك البلاد القديمة وحريرها وزجاجها وورقها
قطعة سخيفة تشبه غيرها
ولن يتأثّر العالم بانكسار نفسها أو تمزّق أحلامها أو تقطّع أوصالها أو تشيّؤ إحساسها
***
في غيابك أضع ذاتي في علبة صغيرة
لأهرب من أشباح الماضي التي تريد أن تمتصّ ما تبقّى من لوني
لعلّها تسترجع ألوانها
وأخفي العلبة في دُرج الخزانة المركونة في زاوية الغرفة
وأقفل باب الغرفة في البيت المتروك للسكوت
وأمحو من ذاكرتي لونَ العلبة وموضع الدُرج وموقع الخزانة وباب الغرفة ومكان البيت
وأنسى أنّني موجودة
أضع ذاتي في العتمة
وأضيّع ذاتي
كي لا تصفعني خيبتها
ويجرحني تعبها
ويبكيني شكلُها
الشبيهُ بالمرآةِ العاجزة عن غسل وجهها
والمزهريّةِ الجافة الأحشاء
والمقعدِ المشلول 

إلى أطفال سوريا ... مع كلّ الحبّ (1)


 

1- في المدارس السوريّة لا تسأل المعلّمة الآن إن كان التلميذ حاضرًا أو غائبًا، 
بل تسأل إن كان ميتًا أو نازحًا!

 2- لا أفهم كيف يقتنع بعض الناس بأنّ الأميركيّين والإسرائيليّين تخلّصوا من ياسر عرفات بالسمّ، بينما لا يمكن التخلّص من بشّار الأسد إلّا بتدمير سوريا وتهجير المسيحيّين وتفتيت المنطقة؟

 3- رأيت في ما يرى النائم آلاف الباصات والحافلات والسيّارات والشاحنات تحمل نساءً يزغردن، وأطفالًا يرفعون الألعاب والدمى، وعجائز تدمع عيونهم شوقًا وتتمتم شفاههم دعاء، ورجالًا يحملون كتبًا. وكلّهم في رحلة حجّ إلى معلولا. فخافت الطائرات وخجلت المدافع وهرب المسلّحون. ثمّ ظهرت تقلا على باب الدير وقالت لملايين الناس الذين اعتادوا زيارتها عامًا بعد عام: أنتم أيضًا قادرون على اجتراح العجائب.

 4- كلّما سمعت، أو قرأت، أحاديث الناس في تحليل سياسة المنطقة، قلت لذاتي: قد تكون الصلاة أجمل
وكلّما سمعت، أو قرأت، أحاديث الناس في تقرير دين الله، قلت لذاتي: قد يكون الحبّ أجمل
وكلّما سمعت، أو قرأت، أحاديث الناس في تحريم الحبّ وتحليله، قلت لذاتي: قد تكون الحرب العالميّة الثالثة أجمل 

5- ممنوع التدخين في منطقة القصف الكيميائيّ
ممنوع البناء غير المرخّص له في شارع فُجّرت بيوته
ممنوع شرب الكحول في بلاد الجنون
ممنوع أن تتناثر أشلاء الضحايا من دون لباس شرعيّ
ممنوع أن تربّوا الحمام لسماء استباحتها الطائرات الحربيّة
ممنوع أن تموتوا إلّا قتلًا
ممنوع أن تحبّوا إلّا برخصة أو فتوى

6- قبل التدخّل الأميركيّ العسكريّ في سوريا، 
وقبل إحراق كنيسة أخرى في مصر، 
أغتنم فرصة الهدوء النسبيّ بين تفجير وآخر في لبنان،
لأصارحك بأنّني أحببتك، 
وأنّني أخطأت في انتظار السلام العادل والشامل لأخبرك بذلك!

 7- الجوامع والكنائس المكتظّة بالمؤمنين باتت غير آمنة
الرجاء التوجّه إلى البارات 

8- التجّار الذين حقّقوا أرباحًا خياليّة من بيع الأعلام الأميركيّة والإسرائيليّة، يحرقها المتظاهرون في الدول العربيّة ويدوسون عليها... يتاجرون اليوم بالأكفان

9- حاولت المعلّمة أن تصرخ بتلامذتها الأطفال، في محاولة جديدة لضبط شيطانتهم الجميلة: 
القصير يوقف قدّام والطويل لورا
فهبّ الهواء الكيماويّ ولفح الوجوه وخنق الأصوات!
ولكنْ، أمام عدسات آلات التصوير، أصرّ الناجون على ترتيبهم في صفّ واحد، تحت حرامات تبرّعت بها جامعة الدول العربيّة!