إلى رجل يشبه الكتابة


1- كأنّني لمحت قبلة تختبئ عليّ بين شفتيك!

***

2- يبقى قانون العمل مجحفًا إلى أن يضع فيه المشرّع بندًا يجيز لي التغيّب بداعي الرغبة في البقاء معك!

***

3- صلاة يوم الأحد: 
اغفر لنا، 
لأنّنا، لجهلنا وعدم تمييزنا بين ما هو لك وما هو لقيصر، 
حوّلنا صلاتنا سلسلة طلبات ومطالب
كتأمين الماء والكهرباء وتنظيم السير ودعم الزعيم الفلانيّ وتخفيض كلفة الاستشفاء والتعليم...
اغفر لنا، لأنّنا، على الأرجح، نؤمن بك في انتظار وعي الفكر وقيام الدولة...

***

4- حين أمتنع عن مصارحة أحدهم (أو إحداهنّ) بأنّه غبيّ، فليس لأنّني أخشى أن يكرهني، بل لأنّني أخاف أن يكره نفسه! 

*** 


5- لم يلفت شحوبُ وجهي انتباه الناس الذين صرخوا بي ناقمين:
كيف ترمين حجارة في بئر شربتِ منها؟
فأجبتهم والغثيان يخنق حنجرتي:
خسئتم! ما أنا من ناكري الجميل! لكنّي أردم بئرًا شربت من مياهها، فوجدتها آسنة بعدما جفّت الينابيع التي تجدّد حياتها، وحجبتِ السماءُ عنّا وعنها عطاءها!

ماري القصيفي ومحاولة الإستشفاء من الحرب باستحضارها


ماري القصيفي ومحاولة الإستشفاء من الحرب باستحضارها
الكاتبة اللبنانية ماري القصيفي تضع يدها على جرح لم يندمل حتى اللحظة، تلملم خيوط القدر والحرب والمعاناة لتنشد السلام.
العرب منى الرنتيسي [نُشر في 15/02/2014، العدد: 9470، ص(16)]
ماري القصيفي تخاطب الحرب علها تجد خلاصا منها
في رواية “للجبل عندنا خمسة فصول” للأديبة اللّبنانية “ماري القصيّفي” الصّادرة عن “دار المشرق” 2014، تحاول الكاتبة الاستشفاء من الحرب الطائفيّة التي ما زالت رياحها تعصف بلبنان حتى هذه اللّحظة، هو الجبل اللّبناني الجنوبيّ بين قضائي الشّوف وعالية، هناك حيث تزيد الفصول العادية فصلا دائما للحرب والدماء.
تعود الكاتبة إلى ما قبل مئة وعشرين سنة إلى مجازر 1860، وتروي استرجاعا تاريخيّا لحرب الجبل بين المسيحيين والدروز، وتسير بنا في سرد مخضّب بالدم والحرب والنزوح والدمار، وتمرّ على عدّة تواريخ ومراحل مفصليّة حتى تصل إلى يومنا هذا.
مقبرة الألم
بطلة روايتها “سلوى بو مرعي” ابنة الجبل الّلبناني والشّاهدة على مأساة كانت أكثر من دفع ثمنها وعاش تفاصيلها، شقيقها التوأم “سليم” الذي كان يعاني من مرضٍ عقليّ منذ الولادة، ممّا كان السّبب في جعل والدتها تنقم عليها وتعتبرها من سلبت لبّه، هي التي كانت شديدة الفطنة والذَكاء والجامحة دوماً نحو المعرفة.
لم يبق لكلّ تلك المعرفة وزن، بعدما تركت سلوى وعائلتها الجبل هربا من الحرب، لتتعثر خطاها عند اللّحاق بركب الهاربين، وتتعرّض لحادثة اغتصابٍ تفقدها كل الآتي من مستقبلها، وتتسبّب لها مع الحرب بمرضٍ نفسيٍّ عصبي، علاوةً على مقتل أبيها وجدّها وهجرة أخيها في ظروفٍ غامضةٍ وملتبسة، كل ذاك يبقيها حبيسة دار استشفاء “دار الصليب”.
يحاول من بقي من عائلة سلوى وخاصّة ابنة خالتها “مي الريحاني” مساعدتها على الاستشفاء من أهوال الحرب والنزوح والاغتصاب، من خلال حثّها على التدوين وسرد التفاصيل التي عايشتها على الورق، علّ ذلك يصير مقبرةً لألمٍ لم تفلح العقاقير ولا المسكّنات ولا دور الاستشفاء في إبراء سلوى منه.
في الجبل تلتقي سلوى “العمّ أديب” الذي يحتفظ بذاكرةٍ خصبةٍ عن كلّ ما جرى أثناء الحرب وما بعدها، فيروي لها الكثير من القصص، لعلَها تجد طرف خيطٍ يساعدها على معرفة من كان وراء مقتل أبيها وجدّها، إضافةً إلى ذلك يساعدها ابن العمّ أديب “جورج” الذي كان مغترباً في الحصول على وثائق دوّنتها طبيبةٌ سويدية “جوزيان أندريه” أثناء وجودها في لبنان وعملها في فرق الإغاثة خلال الحرب.
لم يعد يليق بالحرب إلا أن تكون حبيسة الكتب ووثائق المذكرات
في الجبل تلتقي سلوى أيضا “أنطوني خيرالله” ذاك الشَاب الذي نشأ يتيماً وعانى أهوال الحرب، لكنّه أفلح في مواجهتها بشجاعةٍ والانتصار على معظم تبعاتها، أرادت مي ابنة خالة سلوى أن تتعلّم من الطبيبة جوزيان الإيمان، حيث تسلحت به طيلة فترة العمل في الفرق الإغاثيّة، حتى تمكّنت من إنجاز مهمّتها بنجاح، وأن تتعلّم كذلك من أنطوني الشجاعة والعزم في التّغلب على المصاعب وأهوال الحروب.
تذهب سلوى إلى الجبل وتبدأ بوضع حجر الأساس لبنائها الروائي الذي لم تتمكن من تعمير آخر طبقاته وكسوه بالشّفاء والنسيان والمصالحة، واكتساب الشجاعة والإيمان، حيث استبقها الموت قبل أن تستبق الحياة بمصالحة أو حتى بمهادنة، لتتوفى بالسرطان وفاةً جسديةً بعدما قضت نفسيّاً وعاطفيّاً منذ زمن طويل، وكأنّ الموت أتى في اللّحظة التي بدأت فيها سلوى تستعيد عافيتها للحياة!
حرب في كتاب
لكن كيف ذلك وهي التي حكم عليها المجتمع بالإعدام على ذنبٍ لم تقترفه، غير أنّ القدر كتب لها أن تحيا في بلدٍ تعصف به الحروب الأهليّة والدّموية التي لا تبقي ولا تذر، هي ضحيّة جشع الحرب الّتي لا تكتفي بسلب الأرواح والدماء والمستقبل، وإنّما بسلب فتاةٍ جميلةٍ وذكيّة حقّها في الزّواج والإنجاب، لأنّها لم تكن على مقاس مجتمعٍ منافقٍ وقاسٍ ومجحفٍ في أحكامه.
فبدل أن ينصفها ويعيد إليها حقّها ويعاقب الجناة، ها هو يعاقبها بعقوبةٍ أشدّ قسوة من فعل الجاني نفسه، عندما يحرمها من الزواج، لا بل وينهال عليها بوابلٍ من الشائعات والأقاويل التي لا تنضب بل تبقى مستنقعاً تفوح منه جلّ روائح الاتَهامات والرّذائل النّتنة، لتعود سلوى وتجري تقييماً للمجتمع من نوع آخر فتقول:
“أنظر إلى الهرّةٌ التي ترتع آمنةً في حديقة العمّ أديب، وأحسدها على هناءة ما هي فيه، تتمدّد على العشب وتدعو جراءها للرّضاعة من أثدائها الصّغيرة، فتسرع الهررة الصغيرة كي تلبّي الدّعوة المنتظرة.
كيف يكون بوسع الإنسان أن يحسد حيواناً؟ هل تدهورت حياتنا البشريةٌ إلى حدّ صار الناس يأكلون بعضهم والحيوانات ترعى بعضها؟ كيف يمكن أن أكون أنا سلوى بو مرعي امرأةً وحيدةً متروكة، لا رجل يشتهي قربها ولا أطفال يتناولون الحليب من صدرها، أمّا هذه الهرّة فوجدت ذكراً، وأنجبت جراء تلعب وهي مطمئنّة إلى حنانها وعطفها؟”
إذن هي سلوى التي تبعثرت أنوثتها في أغبرة حربٍ لا تبقي ولا تذر، ابنة الجبل والدم والتشرّد والضّياع، وضحيّة الجهل وقسوة مجتمعٍ لم يهتد إلى الأمان والتعايش الحقيقيّ حتى هذه اللّحظة، ولازال أبناؤه يتجرّعون مرارة حربه موتاً وتشرّداً وظلماً وقسوة.
تخاطب الكاتبة الحرب علّها تجد خلاصاً منها، تحاكي العنف عله ينقلب رحمة، تضع يدها على جرحٍ لم يندمل حتّى اللّحظة، تستحضر بطلة شكّلت حياتها قصةً متكاملة لمأساةٍ حقيقيّة، تلملم خيوط القدر والحرب والمعاناة لتقول بحنكتها الروائية كم عسانا أن نستحق العيش بسلام!، كم سلوى صنعنا وكم من حق أخريات ألا يتجرّعن مصيراً مماثلاً، حينها سيكون الشّفاء الحقيقيّ من حربٍ لم يعد يليق بها إلا أن تكون حبيسةً لأغلفة الكتب ووثائق المذكّرات والماضي الذي لن يعود من جديد.

لولا حبّك

في مأتم أنسي الحاج (عن صفحات التواصل الاجتماعيّ)

لولا حبُّك، وضحكةُ الطفلِ الذي نال اليوم جائزةً لأنّه مجتهد، ووالداي العجوزان:
لقلتُ إنّ الحياةَ هناك صارت أجمل:
حيث أنسي الحاج وجوزف حرب يتناقشان في من يحبّ فيروز أكثر
فيتدخّل عاصي ومنصور الرحباني مُصلحَين
وينضمّ إليهما وديع الصافي ونصري شمس الدين وجوزف صقر
وترنو ناديه تويني إلى الجميع عاتبة، فيحاول شوشو أن يضحكها
ويقول عصام محفوظ لبول غيراغوسيان ووليد عقل: ألم أقل لكما إنّهما لن يكبرا؟
فتبتسم سلوى القطريب وهند أبي اللمع ورضا خوري
ويكتم زكي ناصيف رغبته في مشاكستهما
ويهبّ فيلمون وهبي يريد الكلام فيمنعه أنطوان ريمي وميشال طراد 
فيقول أبو ملحم لإم ملحم: "اعملي ركوة قهوة، صار واصل إيلي صنيفر"
فتضحك فريا
ل كريم وعليا نمري وليلى كرم وبدور
ويقهقه فهمان ودرباس وشكري
ويصل آخرون كثيرون: شعراء وفنّانون ومطربون وصحافيّون ومسرحيّون 
وترتفع الأصوات هازجة بالحياة
فيسأل الله وقد شعر بأنّ عهدًا جديًا قد بدأ في السماء: 
هل صار لبنانُ كلُّه هنا؟

أنسي الحاج... قم واحمل قلمك واكتب!









     حين أسّست مجلة "البراعم" في مدرسة الحكمة – فرع مار يوحنّا - برازيليا، وأطلقت أقلام التلامذة براعم واعدة في أرضها الخصبة، طلبت من الصديق الزميل نوفل ضو، وكان يعمل وقتذاك في ملحق النهار العربيّ والدوليّ، أن يسعى لدى أنسي الحاج (واسمه أكبر من أيّ لقب) لكي يكتب لي، بخطّ يده، نبذة مختصرة عن سيرة حياته.
    كنت أريد أن أجعل التلامذة على تواصل، ولو غير مباشر، مع الأدباء: إن عبر مقابلات صحافيّة (كالمقابلة التي أجروها مع توفيق يوسف عوّاد وكانت آخر حديث له قبل مقتله في القصف على السفارة الإسبانيّة في بعبدا، ثمّ مع إميلي نصرالله في منزلها الذي صار أثرًا بعد عين) أو عبر ندوات مباشرة (كالتي أجروها مع جبّور الدويهي حول كتابه عين وردة)، وكثير من مثل تلك الأنشطة الثقافيّة، التي أعتبرها أكثر أهميّة ممّا يجري بين جدران الصفّ الخانقة، وصفحات كتاب، ضيّق الأفق، مهما اتّسع مداه وتنوّعت نصوصه.
     أنسي الحاج كان ينأى بنفسه عن اللقاءات المباشرة، وكنت أرى أنّ التلامذة سيجدون صعوبة في مواجهته وجرّه إلى الكلام (ربّما كنت على خطأ، فأنا لا أعرفه شخصيًّا)، لذلك كانت هذه الأوراق بخطّ يده، وسيلة لجعله في متناول التلامذة. فجعلتها، فضلًا عن نصوص كثيرة من مجموعته "كلمات كلمات كلمات"، وسيلتي لتكريمه وشكره على وضع ذاته بين أيدينا وتحت أنظارنا، عبر كلمات حاول كثر تقليدها وفشلوا.

     أنسي الحاج! قم واحمل قلمك واكتب!

ماري القصيفي روائية حرب الجبل بين دروز لبنان ومسيحييه - بقلم مايا الحاج - صحيفة الحياة



ماري القصيفي روائية حرب الجبل بين دروز لبنان ومسيحييه

مايا الحاج - صحيفة الحياة 

الجمعة ٧ فبراير ٢٠١٤
     «بوسطة عين الرمانة»، «السبت الأسود»، «حرب الجبل»، «حرب التحرير»، «حرب الإلغاء»... قد يُخيّل إلى القارئ الذي لم يعِش في لبنان أو أنّه لم يقرأ تاريخه، أنّ هذه العناوين تعود إلى أفلام عن الحرب أو روايات بوليسية، لكنّها في الواقع ليست إلّا تسميات أطلقت على المعارك التي خاضها اللبنانيون في أماكن مختلفة، وفي مراحل عدّة خلال الفترة الممتدة من عام 1975 حتى 1990. وعلى رغم أنّ تلك المرحلة المشؤومة في تاريخ لبنان وُضعت تحت مُسمّى الحرب الأهلية، إلا أنها لم تكن حرباً، بل حروباً بين الطوائف والمذاهب والأحزاب التي احتمت كلّ واحدة منها خلف دولة من الدول التي ترعى مصالحها. فمرّة كان الفلسطيني حليفاً، ومرّة كان الإسرائيلي هو الحليف، ومرّات أخرى كان السوري والفرنسي والأميركي...

    شكّلت تلك الحرب منعطفاً في حياة اللبناني الذي تحوّل فجأة من مواطن إلى مهاجر، ومن طالب إلى قاتل، ومن عامل إلى شهيد، وقد أحدثت في الجانب الآخر تحولاً ملحوظاً في مسار الرواية اللبنانية التي اتخذت من الحرب تيمة لها على مدار عقود متتالية.

    «للجبل عندنا خمسة فصول» (دار سائر المشرق) هي رواية جديدة من روايات الحرب الأهلية، لجأت فيها ماري القصيفي إلى التاريخ لترصد تأثيره الراسخ في صميم المجتمع الراهن. هكذا، اختارت الكاتبة - بعد «كلّ الحق عَ فرنسا» - أن تنبش مرّة أخرى في صناديق مقفلة لم يجرؤ الآخرون على فتحها لشدّة خطورتها، أو لنقل حساسيتها. «حرب الجبل» هي إحدى الحروب المدمرة التي تناحر خلالها دروز الجبل ومسيحيوه عام 1983، فقُتلت عائلات درزية وقتلت وهُجّرت عائلات مسيحية، ليتكرّر بذلك سيناريو حرب أجدادهم المنسية (1840 حتى 1860).

    قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال عن أهمية كتابة رواية عن حرب مضت في وقت يقف لبنان ومعظم دول المنطقة على شفا حروب أهلية مرعبة. لكنّ ماري القصيفي لا تكتب التاريخ إلّا تحذيراً من المستقبل الذي لن يحمل معه أيّ أمل إن لم يحدث تغييراً جذرياً في «العقول». حرب الجبل مثلاً تكرّرت أكثر من مرّة خلال قرنين، ولا شيء يمنع من أن تتجدّد أمام أيّ ظرف مستجد في ظلّ غياب الرغبة الحقيقية في النسيان والتخلّص من الشعور بالمظلومية والتسلّح بالعلم والثقافة. من هنا، تبدو الحرب في رواية القصيفي كأنها فصل خامس يشذّ عن طبيعة لبنان المعروف بتواتر فصوله الأربعة، كأنّ الحرب هي الفصل الملعون في كتاب التراجيديا اللبنانية الطويلة.
    تكتب القصيفي روايتها بنَفَس الصحافي الاستقصائي الذي لا يتوانى عن استخدام أيّ توثيق قد يُغني ربورتاجه. لكنها، في الوقت عينه، لا تهمل الجانب الروائي فيها، فتعمد إلى حيلة أدبية تُمسك بالقارئ منذ الصفحة الأولى وتجرّه نحو خاتمة روايتها الضخمة بحماسة واهتمام. فهي تعتمد لعبة الرواية داخل الرواية التي سمحت للراوية بالتنقّل على خطّ الزمن رجوعاً واستباقاً. ومثلما ساهمت هذه التقنية في إثراء الرواية وتدعيم بنيتها الداخلية، عملت على إظهار التماثل بين الكاتبة وبطلتها.

    البطلة هي سلوى بو مرعي، امرأة مسيحية في الخمسين من عمرها، عاشت يوميات حرب الجبل بعد تهجير العائلات المسيحية من قرية «عين يوسف» وقتل من تبقّى فيها. مكثت في «دير الصليب» مع شقيقها المختلّ عقلياً سليم، لكنها قرّرت بعد ثلاثين عاماً على مرور ذكرى حرب الجبل (1983) أن تكتب رواية توثّق فيها ما رأته وما سمعته خلال تلك المرحلة، لاقتناعها بأنّ التاريخ يكتبه المنتصرون، في حين ابتعد الروائيون عن الغوص في تفاصيل حرب شائكة ما زال لظاها يحرق نفوس من عايشها، سواء كانوا دروزاً أم مسيحيين.
تتابع سلوى ما يجري اليوم في سورية وتتذكّر ما كان يحدث في وطنها قبل ثلاثين عاماً وهي تقول إنّ زمن الإنترنت و «الفايسبوك» و «الواتس آب» حوّل كلّ الناس إلى أدباء وشعراء. إنها تقنع نفسها بقدرتها على إنجاز رواية عن الحرب، مع العلم أنّها لم تكتب رواية الجبل بخلفية الروائية، وإنما كضحية من ضحايا الحرب اللبنانية.
    مع أنّها كانت تغبط ابنة خالتها مي الريحاني (كاتبة) على موهبتها الإبداعية، ما كان حلم سلوى، الفتاة الجميلة و «ست البيت»، سوى حلم عادي كمعظم صبايا قرية «عين يوسف»: أن تحبّ وتتزوج وتُنجب... لكنّ الحرب حرمتها أبسط أحلامها: «أيّ عذاب هذا أن أحمل في ذاكرة روحي عمراً من التهجير المهين والغربة القسرية، وفي ذاكرة جسدي عمراً آخر من الحرمان الصارخ والرغبة المكبوتة. وبين العمرين، انقصفت أعمار أحلامي...» (ص 209).

بين الحبّ والحرب
    مرّت الأعوام، لكنّ سلوى نسيت أن تكبر وظلت عالقة هناك، على الطريق بين قرية «عين يوسف» و «دير القمر». محطات كثيرة عرفتها حياة واحدة، حياة تغلّبت فيها الحرب على الحبّ. ذاكرتها الملأى بمشاهد الموت والدمار دفعتها إلى تحيقق مشروع الكتابة، بتشجيع من ابنة خالتها مي وطبيبها فادي وحبيبها دانيال الذين كان لكلّ واحد منهم هدفه في رواية «حرب الجبل». فالطبيب النفسي كان يريدها أن تنطلق بحرية في خفايا ذاتها للتعبير عن نفسها ومداواة جروح عميقة لم تندمل بعد. ودانيال المهووس بالقضية المسيحية أرادها أن تكتب بدافع ديني لعلّها تفضح حقيقة الظلم الذي تعرّض له مسـيحيو الجبل. أمّا مي فتريد لسلوى أن تكتب الرواية التي لا تتمكن هي من إنجازها خوفاً على مشاعر قرّائها من غير المسيحيين.

    ومع أنّ الأفكار لا تنقصها لكي تكتب رواية عن الجبل، وهي ابنة الجبل التي قُتل أبوها في قريته وشُرّدت عائلتها ودُمّر منزلها، أخذت سلوى تبحث عن مادة روايتها بين كلام كثير سمعته من «مجانين» دير الصليب الذين لم يتمكنوا من احتمال فظاعة الجرائم التي ارتكبت في حق أهلهم وجيرانهم.
    ومن ثمّ لجأت إلى مواد توثيقية كتبها بعض من شاهد الحرب عن كثب مثل جوزيان وأنطوني، إضافة إلى كتب عن الحرب اللبنانية استخدمتها كمراجع أساسية مثل كتاب «أين كنتم في الحرب؟» للكاتب غسان شربل، و «الجبل حقيقة لا ترحم» لبول عنداري، و «قصة الموارنة في الحرب» لجوزيف أبو خليل وغيرها...
    تنبش رواية ماري القصيفي في تفاصيل حرب الجبل الملتبسة، فتكشف تفاصيل تدخّل الإسرائيليين فيها بعدما قرروا فجأة أن يقفوا في صف الدروز ضد المسيحيين الذين جاءت مواقفهم مخيّبة للآمال.
    تمنح الكاتبة هامش الكتابة لبطلة تروي يوميات حرب الجبل بلسان مسيحية نُبذت واغتُصبت وهُجرّت، من غير أن تدفعها الحرب إلى تقوقع أكبر على طائفتها. بل تولّد الكره في قلبها تجاه كل من شارك في حرب بشعة دمّرت بيوت الجبل وأفراده، حتى غدا في ما بعد أشبه بمقبرة كبيرة تقصدها العائلات لدفن موتاها، لا أكثر. «هناك، بين قذيفة وأخرى، وتحت دخان الحرائق وتفجيرات الألغام التي زرعها مقاتلو القوّات اللبنانية على التخوم الفاصلة بيننا وبين القرية الدرزية المجاورة، وقفتُ أنا سلوى بو مرعي ألعن الجميع، وأدعو على هذه القرية وعلى هذا الجبل بالخراب».
حاولت ماري القصيفي أن تتناسى المبرّرات والترسّبات الطائفية لتكتب روايتها بروح المنتقم من كلّ من شارك في الحرب، من الدروز كما من أبناء طائفتها. وفي هذا السياق تقول سلوى: «تمنيت أن أنجو وحدي لأشمت بمسيحيين أغبياء لا يعرفون كيف يوحدون كلمتهم، ومع ذلك تحرّشوا بالدروز الذين توحدوا صفاً واحداً، ولأكره دروزاً خانوا الخبز والملح، وفلسطينيين ظنّوا أنّ الطريق إلى القدس تمرّ بقريتنا، وسوريين وإسرائيليين يتلاعبون بالجميع...» (ص 45).

    تتولّى سلوى السرد في الفصول الأربعة الأولى من الرواية، لتُمسك مي الريحاني طرف السرد في الفصل الأخير، كأنها قرينة سلوى التي رحلت قبيل إتمام روايتها: «أنا مي الريحاني، أكتب الآن لأضع خاتمة لما كتبته ابنة خالتي سلوى بعدما وضع السرطان حدّاً لحياتها».
    في «للجبل عندنا خمسة فصول»، تتقلّص المسافة بين الشاهد والموضوع، بحيث تختار ماري القصيفي لبطلتها «ابنة الجبل» أن تروي حكاية حقبة عصية على الكتابة في تاريخ لبنان. فتصور الراوية، ومن خلفها الكاتبة، واقع الحياة الجبلية قبل الحرب - خلالها - وبعدها. تصف الطبيعة كما تصف الناس بكثير من الخصوصية والمعرفة. ولا تتوانى الكاتبة - التي ترفع صوتها الشخصي في مقاطع معينة من الرواية - من أن تعرض نقدها اللاذع تجاه الكنيسة التي تعلّق طلاق زوجين لبنانيين بأمر الفاتيكان، وتجاه منطقة جبلية تُقام فيها أهم مهرجانات لبنان وأكثرها كلفة (وهي تقصد هنا بيت الدين) في ظلّ غياب المكتبات فيها، بل وأنابيب الصرف الصحي أيضاً...
    تكتب ماري القصيفي روايتها من موقع التأصّل لا الانسلاخ، وما إعادة إحياء ذكرى الحرب الأهلية إلّا دلالة على العودة إلى أنفسنا وضمائرنا وضرورة استحضار اللحظة النفسية للحرب التي تلوّح لنا في الأفق غير البعيد.



رسالة رابعة إلى مار مارون - الاستشفاء


كم كلفة الوقت وهن ينتظرن الموت في المستشفى؟ ومن يمكن له أن يسدّده؟

    تخيّل يا أبانا مارون أن يأتي يوم لا يذهب فيه المرضى إلى أضرحة القدّيسين ومقامات الأولياء الصالحين، وحين يتساءل أهل السماء عن عزوف المتألّمين عن الحجّ إلى مزارات ومعابد تحمل أسماء من أفنوا العمر في الصوم والصلاة، يأتي الجواب صوتًا هاتفًا من قلب الله: صار الأطبّاء قدّيسين، والممرّضون شفعاء، وما عاد المريض في حاجة إليكم يا أهل السماء لأنّ الأرض صارت هي السماء، فيها من يستبق المرض، ويخفّف الوجع، ويداوي العلّة، ويبلسم الجراح، ويمسك يد المتألّم بمحبّة لا بشفقة، وبدافع الرسالة لا بحكم الوظيفة!
     تخيّل يا صديقي الناسك أن يحصل ذلك فلا يقضي مريض على باب مشفى، ولا يحتضر آخر في وحدة وخوف، ولا يضيع ثالث في متاهة التجارة بالدواء والعلاج وزواريب المستشفيات المعقّمة من الحبّ والملوّثة بالجهل، والموزّعة طبقات اجتماعيّة!
     تخيّل أنّ المستشفيات والمختبرات الطبيّة وشركات التأمين تعمل بشفافيّة، فتقول للناس: هذا ما أخذته منكم وهذا ما أعطيكم إيّاه. هذا واجبي وهذا حقّكم، هذه رسالتي وهذه حياتكم، وها نحن كسمعان القيرواني سنساعدكم في حمل صلبانكم!
     ولكن كيف لك أن تتخيّل ذلك في حين تزكم أنفَك روائحُ كريهة منبعثة من دور العجزة العاجزة عن تأمين أبسط شروط النظافة، ويجرّح أذنيك أنين مرضى لا يملكون ثمن دواء في مجتمع طائفيّ ترمي فيه الطائفة ثقل أتباعها على دولة غيّبها وجودهم، وتناتشها جشعهم؟
     رؤساء طائفتك يا مارون يصحّ فيهم القول: أيّها الطبيب طبّب نفسك! يريدون معالجة شؤون المنطقة وهم عاجزون عن تسيير أمور الرعيّة، يطمحون إلى حلّ مشاكل الدولة وهم منقسمون بين زعماء الدولة، يسعون إلى لعب دور على مسرح العالم السياسيّ، وهم غير قادرين على مأسسة كنيستهم التي تميل أهواء إدارتها مع ميول القيّمين على ممتلكاتها وأموالها! ممتلكات وأموال صارت إلهًا آخر أعظم من إلهك وأكبر من مسيحك!

     وفي انتظار أن تصير مستشفياتنا هي مقصد المرضى وقبلة آمالهم لمعالجة آلامهم بكلفة أقلّ وجعًا من المرض نفسه، صلِّ لأجلنا يا مارون كي نحقّق إنسانيّتنا، فمن الواضح أنّ الطريق إلى الألوهة لا يزال طويلًا!!! 

رسالة ثالثة إلى مار مارون - العمل

الراهب شربل من تلامذة الراهب مارون


رسالة ثالثة إلى مار مارون عن العمل
    يا أبانا مارون العامل في حقل الربّ هل ترى اليوم كيف يتكاسل أتباعك فيهملون أعمالهم في كلّ مجال وشأن ما عدا التجارة؟ تجارة في الطبّ والتربية والمأكولات، وتجارة في الدين والأخلاق والخدمات، تجارة على المفضوح، وتجارة في السرّ... تجارة بالكحول والمخدّرات والنساء... تجارة بالقداديس والجنانيز والصلوات... تجارة بالأعراس واحتفالات التنصيب والسيامة...
     التلميذ كسول، والمعلّم كسول/ المريض كسول، والطبيب كسول/ الموظّف كسول، والمدير كسول/ لكنّهم جميعهم يريدون كلّ شيء: المال والنجاح والصحّة والأرض والسيّارات والتلفونات والشقق والسفر... وكلّهم يراهن على عجائب تحقّق لهم ذلك.
     يا أبانا الناسك المترفّع عن الدنيويّات، عندنا ناسك واحد يريد أن ينقذ طائفة مشرذمة منقسمة مهووسة بالمجد الذي أُعطي لها يوم كان أبناؤها يعملون، ويريدون اليوم الاستئثار به وهم متخاذلون متراخون، راغبون في من يعمل عنهم ولهم ومن أجلهم... ناسك واحد، اثنان، ثلاثة... كيف صارت أمّة النسك تحصي نسّاكها على أصابع اليد الواحدة؟ كيف صارت أمّة العلم والعمل غارقة في الجهل، ضيّقة الأفق، مهدودة العزيمة؟ كيف صار العمل في الأرض مسبّة، وقراءة الكتب مذمّة، ومساعدة الآخر غباء، والتمسّك بالهويّة تراثًا مضى عليه الزمن؟
     يا صديقي الناسك، هل يتناسى الموارنة خطف بطاركة وراهبات لو لم يكونوا جبناء؟ كيف يخافون على رؤوسهم وشعور رؤوسهم لا تسقط إلّا بعلم الآب؟ ومنذ متى صار المارونيّ يخضع لمزاج امرأته التي تريد أن تعيش متنقّلة بين باريس وكندا ونيويورك و"ع إجرها القضيّة"؟
     أين الرجال يا مارون؟ أين النساء؟ ولكن كيف أسألك وأنت تركت الرجال والنساء وتبعت الآب؟
     لا تؤاخذني يا صديقي الناسك، فالعمل كثير وأنا تعبة: تعبة من كلّ عمل نزعوا عنه رسالته، تعبة من كلّ حبّ يتحوّل صليبًا، تعبة من مشاهد البؤس، تعبة من ثورة لا تجد ثائرين، تعبة من رجال يائسين، تعبة من أطفال وُلدوا شيوخًا عاجزين، تعبة من نساء يطلبن التحرّر على حساب نساء من لون آخر وجنس آخر... تعبة جدًّا من هول ما أراه آتيًا ولن ينفع أمامه ندم أو أسف...


رسالة ثانية إلى مار مارون - المرأة

مغارة مار مارون في الهرمل

من رسائل ماري القصيفي إلى مار مارون – المرأة

     كنت وعدتك يا أبانا الناسك بأن أحدّثك اليوم عن التربية. ولكن هل تستقيم التربية مع امرأة مارونيّة لا تصلح لتكون ابنة برّة أو زوجة وفيّة أو أمًّا حاضرة أو جدّة حكيمة أو مربيّة عليمة أو مهندسة متبصرّة أو طبيبة رائية أو ممرّضة ساهرة أو راهبة قدّيسة؟ وكيف نصحّح التربية مع نساء يردن كلّهنّ أن يكنّ جميلات ومعشوقات وفنّانات ومهاجرات ومتفلّتات من أيّ التزام؟ وكيف نُراهِن على خلاص تربويّ والأولاد يرضعون السليكون بدل الحليب، ويشربون الكوكاكولا عوضًا عن المياه، وينامون في أحضان المربيّات الآسيويّات، ويدمنون المخدّرات والكحول والجنس؟
     هل ترى إلى أكثر مارونيّات هذا العصر يا صديقي الناسك أم أنّ عفّتك تمنعك عن النظر إليهنّ؟ لا تخف، لم يعد فيهنّ ما يثير الشهوات، وليس بينهنّ من تصلح للخطيئة، وهل يمكن سويَّ الفكر والقلب والجسد أن يهوى مومياء لا إرادة لها ولا رغبة ولا شهوة ولا ذكاء ولا طموح ولا علم ولا مسؤوليّة ولا عاطفة ولا خيال؟
     هل تذكر النساء اللواتي روّضن الوعر؟
     هل تذكر النساء اللواتي ربّين أجيالًا من العلماء والقدّيسين؟
     هل تذكر النساء أخواتِ الرجال في العزم والإرادة والصلابة، وشبيهات الملائكة في العشق والنقاء، وربيبات الأرض العنيدة؟
    كلّهن رحلن واندثر كلّ أثر لهنّ!! وبقيت لنا خيالات نساء مستنسخات عن صورة شوهاء لا علاقة لها بمجد، ولا تمتّ بصلة لعزم، ولا تربطهنّ رابطة قربى بفكر أو وعي أو حريّة، ولا يعرفن قيمة الأرض والتراب والمياه!
     سلْ أهلَ الخليج عنهنّ يا أبانا الناسك، سلِ المقاهي والبارات والسفارات والمطاعم والمسابح وصالات السينما! 
     سلْ خبيرات التجميل وأطبّاء الترميم ولكن لا يخطرنّ في بالك أن تسأل في مكتبة!
    أمّا اللواتي تراهنّ عابدات خاشعات فأكثرهنّ يا صديقي يدبّر مكيدة أو يبحث عن نميمة أو يراهنُ بغباء على سماء على قياس فهمهنّ للدين! واللواتي يتراءى لك أنّهنّ مثقّفات لسن سوى هاويات شهرة، واللواتي يرطنّ بأكثر من لغة أجنبيّة لا يملكن ما يقلنه في جملة مفيدة!
     أسكتني يا أبانا مارون! أسكتني قبل أن أضيف إلى وجعك وجعًا، وعلى جبهتك تجعيدة قهر، أسكتني يا من أخرجوك من نسكك وحمّلوك هَمّ طائفة لا تعرف إن كانت شعبًا، ومسؤوليّة شعب لا يعرف إن كانت له لغة! أسكتني قبل أن أنسى أنّ في هذه الطائفة نساءً صالحات، لولا فهمهنّ معاني الالتزام بالأرض والإنسان، لكانت هذه الطائفة المنكوبة بزعمائها اندثرت وزالت من زمان.



رسالة أولى إلى مار مارون - الإعلام


رسالة أولى إلى مار مارون - عن الإعلام (1 من 7 حلقات)

     أنا المارونيّة العنيدة – وبحسب فهمي لدور الموارنة في المشرق والعالم - لا أجد وسيلة إعلام تمثّلني، ولا أرى في أيّ إعلان ما يثير اهتمامي.
     اليوم الأحد مثلًا، في نشرة أخبار LBCI، تقرير بالتفاصيل المعيبة عن تحرّش المخرج الهوليوديّ وودي آلان بابنته بالتبنّي. والداي العجوزان كانا في حال صدمة واشمئزاز، وهما يسمعان ما لا يفهمان أهميته في حياتهما اللبنانيّة المرتبطة بالتهديد بالسيّارات المفخّخة، والخوف على مصير أولادهما وأحفادهما، وشحّ المياه، وتقنين الكهرباء، وغياب ضمان الشيخوخة، وكلفة الوصفات الطبيّة لأمراضهما، وغير ذلك من أعباء الحياة.
     فكيف أشرح لوالديّ أنّ الـ LBC و MTVو OTVمحطّات تلفزيونيّة لا علاقة لها بمارونيّتهما واهتمامهما وهمومهما؟ كيف أشرح لنفسي أن لا وجه شبه بيني وبين هذه المؤسّسات التي تصرّ على أنّها ناطقة باسم المسيحيّين؟ وكيف أشرح لبنات أختي الشابّات أنّ تيلي لوميير ليست لأعمارهنّ، بل للمرضى في المستشفيات، وللعجزة في دور المسنّين، وللعاجزين عن السهر خارج المنزل أو فهم ما يجري على المحطّات الأخرى؟
     لا تمثّلني محطّات لا علاقة لها بالفكر والحريّة، ولا تمثّلني صحف لا تفتح صفحاتها إلّا للعهر السياسيّ والسمسرة والتحريض، ولا تمثّلني إذاعات تلوّث الهواء بالثرثرة العقيمة أو الوعظ المملّ.
     ولا علاقة لي بوسائل إعلام وإعلان رأسمالها سيقان، ورصيدها صدور، وموهبتها اجترار، ونقاط قوّتها نكران جميل المؤسّسين وتجاهل المثقّفين، وبضاعتها مآسي الناس وفضائح الجنس، وأهدافها غسيل الأموال والعقول، وخطّة عملها إبعاد المبدعين وتقريب مدّعي القراءة والكتابة.
     لا تمثّلني وسائل إعلام عملها التشهير والشهرة، وإثارة الغرائز الدنيا، وتشويه الجمال، والإضاءة على العهر، والتعتيم على الفكر، والترويج للصراخ والشتائم والتضارب، وإطلاق النكات البذيئة، والسخرية من كلّ شيء وأحد.
     لا تمثّلني وسائل إعلام لا لغة معروفة لها، ولا هويّة، ولا رسالة، ولا أفق، ولا بُعد نظر، ولا سياسة واضحة...
     لا تمثّلني وسائل إعلام تُعلمني بما أعرفه، وتخفي عنّي ما يجب أن أطّلع عليه...
     لا تمثّلني وسائل إعلام هي مسيحيّة قبل الظهر، وعلمانيّة بعد الظهر، وملحدة في المساء...
     لا تمثّلني وسائل إعلام تنتظر الجريمة بلهفة الحيوانات آكلة الجيف، وتلاحق الضحيّة، وتتسابق في عرض مشاهد العنف والموت...
     لا تمثّلني وسائل تمنع العقل عن الحمل، وتعقّم الخيال، وتقتل العاطفة...
     لا تمثّلني وسائل تمثّل بالمشاهد والقارئ والمستمع وتمثّل على الجميع...

    فيا أيّها الناسك مارون، يا من تاجر هؤلاء بك، واستغلّوا اسمك، وادّعوا أنّهم أبناؤك، لاحظ معي أنّهم لن يذكروك قبل الأحد المقبل، حين يحتفلون بعيدك (9 شباط) على شاشاتهم المخادعة، وفي مقالاتهم المستعادة، قبل أن يعيدوك إلى كتب التاريخ المنسي في مغارة نسكك...


وغدًا أخبرك عن التربية...