نتاج السياسة الأميركيّة في "حيّ الأميركان" لجبّور دويهي



     حيّ الأميركان ليس مجرّد شارع أو زقاق أو ساحة في عاصمة شمال لبنان، طرابلس. هو نموذج عن الوطن كلّه، مذ حوّلته السياسة الأميركيّة الغبيّة، والسياسة اللبنانيّة الأغبى، من العلم إلى الدين، ومن الفكر إلى الغيبيّة، ومن الحريّة إلى التقوقع... وكلّ ذلك بسبب الفقر أوّلًا وأخيرًا. وحين أحصر الأمر بالسياسة الأميركيّة فلكي أختصر التدخّلات العربيّة (سوريّة، فلسطينيّة، مصريّة،...) والأجنبيّة (روسيّة، صينيّة، بريطانيّة، فرنسيّة...) التي تمارس ألاعيبها تحت مظلّة أميركيّة واحدة يحملها يهود العالم.
     هنا، غرب بيتي في الريحانيّة - بعبدا، حيّ للأميركان أيضًا، يقع بالقرب من خطّ تماس فصل بين بيروتين تقاتلتا من دون أن تعرفا لماذا بدأ القتال ومتى ينتهي وكيف. وكما في طرابلس، صار الحيّ المحسوب على ضاحية بيروت الجنوبيّة، شاهدًا على تحوّلات اجتماعيّة تؤكّد أنّ لبنان الذي رسمه الأخوان رحباني خرج من جغرافية المنطقة وتاريخ شعوبها... ولن يعود.
***
     بعدما انتهت مرحلة الأدب الجنوبيّ ثمّ البيروتيّ، بدأت الرواية اللبنانيّة منذ بعض الوقت تدير دفّة مركبتها في اتّجاه الشمال، لكن بعدما سبقتها الأصوليّة الدينيّة ناشرة العنف والإرهاب بين فقراء المنطقة الذين تُركوا خلال عقود طويلة رهائن إهمال الدولة والزعماء. فهل تنقذ الرواية المنطقةَ حين تواجهها بصورتها على مرايا الصفحات؟
     الرهان، بحسب الرواية، على الطفولة والفنّ، لا الحبّ: طفولة جعلت اسماعيل، ابن الخادمة، يعدل عن تفجير نفسه في العراق حين رأى، بين ركّاب الحافلة التي أُرسل لتفجيرها، ولدًا يشبه شقيقه؛ وفنّ جعل عبد الكريم، ابن المخدوم، ينأى بنفسه عن زعامات عائليّة فاشلة، وسياسات ضيّقة الأفق، ويعطف على اسماعيل ويحميه. وكلاهما، أي الطفولة والفنّ، أمام مأزق كبير بعدما حوّلتِ الحروبُ الأطفال ضحايا أو مجرمين، وبعدما صار المشهد الفنيّ الوحيد في المدينة هو ما تبثّه محطّة الأزياء النسائيّة ويتابعه الرجال...
     وقد تكون العزلة التي فرضتها على عبد الكريم العزّام الغربةُ إلى فرنسا، ثمّ الإقامة في بيت العائلة المحاصر بالأبنية الشاهقة، هي الخلاص الوحيد لمن اختار الفنّ الراقي الآتي من الموسيقى والرقص الكلاسيكيّين. أمّا خلاص اسماعيل فسيكون بالهرب والاختفاء بعدما صار أسير دولة تعتبره إرهابيًّا، وإرهابيّين يعتبرونه جبانًا خائنًا لأنّه رفض أن يكون انتحاريًّا.