سلوى بوقعيقيص التي ماتت لتحيا







     لم أعرف سلوى بوقعيقيص المحامية الليبيّة والناشطة للدفاع عن حقوق الإنسان إلّا عندما عرفت بخبر اغتيالها على صفحة الفيسبوك الخاصّة بابنة عمّها نادية Nadia Bugaigis. لكنّي الآن أكاد بأجزم أنّني كنت أعرفها.
     حين سقط حكم معمّر القذافيّ في ليبيا، كتبت يومها: الآن سنرى أنّ في تلك البلاد شعبًا وسنعرف من هو وكيف يفكّر وماذا يرتدي وكيف يعيش... قبل ذلك كنت شخصيًّا قد نسيت، أمام وهج الإطلالات الباذخة لرؤساء الدول العربيّة وزعمائها وملوكها وأمرائها، أنّ خلف الأضواء المخادعة شعوبًا يريدون لها أن تنطفئ بصمت، ويريدون منّا أن ننساها.
    سلوى السائرة إلى موتها بثقة الشجعان الذين يعرفون مصائرهم ارتسمت أمامي صورةً مضيئة لشعب تضجّ الحياة في عروقه، وتجري الحريّة في دمه، فقلت لنفسي وأنا أرى إلى وجهها الجميل، وأناقتها اللافتة، وشخصيّتها الفذّة، أنّ هذه المرأة ليست غريبة عنّي، لأنّها تشبه الجمال والحقّ والخير والحريّة والشجاعة.
     ومذ قرأت خبر موتها/ الجريمة، خبر اغتيالها/ الفضيحة، وأنا أبحث عن أخبارها عبر شبكة الإنترنت، لعلّني أعرف عنها أكثر، وأقترب من عالمها أكثر. لكن ما أجده يوميًّا، يؤكّد لي أن ليس في جريمة اغتيالها ما يفاجئ: كأنّ قدرَها أن تكون ثائرة، وقدرَ تلك البلاد أن تبقى غارقة في الجهل والتعصّب والقتل. وخارج إطار الغرائز التي تتحكّم بمصائر العقول والقلوب، لا يبدو ثمّة أمل يلوح في أفق عالمنا القبيح.
     لكنّ صوتًا ما يهمس في داخلي - وأنا أرى إلى صور تلك المرأة - أنّ موتها أحياها عندي، فلماذا لا تكون فيه حياةٌ لأرضها وناسها؟ هل هي رومانسيّتي المعتادة توحي لي بأنّ فرحًا سينبت من تربتها، وأنّ ابتسامة ستشرق من بين دموع أهلها وعائلتها ومحبّيها؟ أم هي ثقتي بأنّ الأرض التي أنجبت سلوى، ثمّ شربت دمها، وضمّت جسدها، كانت تستحقّ أن تبقى تلك المرأة الشجاعة فيها، وألّا تهجرها وتهاجر منها، وأن تواجه الموت كلّ يوم من أجلها؟

     وأكاد أجزم وأنا أراقب عينيها ونظرة العزم والتصميم فيهما، كما تبدو في صورها كلّها، بأنّ تلك المرأة واجهت قاتليها وهي تبتسم لأنّها ستضع بموتها نقطة نهائيّة لدرس وحيد أرادت أن يتعلّمه أولادها منها وهو درس الكرامة والشرف والشجاعة. وبعد ذلك لا خوف عليهم ولا على أترابهم.