حزينًا حتّى موتي


     عَبَر الرجل الأخير وانتهت رحلة الحبّ كما كان يجب أن تنتهي... كلانا كان يعرف ذلك، ويتوقّعه، وينتظره... ولكان الواحد منّا فوجئ لو حصل عكس ذلك... هم لم يكن ليعبر لو لم أقفل الأبواب والشبابيك في وجهه، ولو لم أتحدّاه وأستفزّه وأعرّضه لاختبار بعد آخر، وأنا أعي جيّدًا كيف لا يطيق أن تسدّ السبل أمامه، وكيف لا يحتمل تحديًّا أو مشاكسة أو استفزازًا أو اختبارًا... كان عليّ أن أفعل ذلك، ليعبر وهو مطمئنّ إلى أنّه لم يرتكب خطأ، وأنّني أنا من خالفت قواعد اللعبة... لعبة؟ نعم، أليس كلّ ما نفعله لعبة لها قواعدها وشروطها ونتائجها؟
     رحل الصديق الأخير، بعدما كان اسمه في حياة سابقة لوصوله العابرَ ثمّ العجوز، ها هو يقطع الطريق إلى الجهة الأخرى من حياة ليس لي مكان فيها، ناقمًا عليّ، غاضبًا على الظروف، حزينًا حتى موتي...
     كانت إشارات الرحيل في وجهه وكلماته وحزنه العتيق... فكيف أقف في وجه الريح التي حملته إليّ وهي تصفر قائلة: سيتابع الرحلة معي فلا تقفي في وجهنا؟ كيف أقاوم رغبته في الانضمام إلى العابرين بين البيوت الخالية إلّا من البرودة والشوارع الغارقة في ليل الخوف، المتلاصقين في مواكب انطلقت مذ كان طفلًا يقف إلى نافذة بيته ويسأل إلى أين يرحل الأصدقاء؟
     جميلٌ صديقي الأخير، كالمسيح في عرس قانا الجليل!
     ذكيّ صديقي الأخير، كالمسيح في مواجهة الفريّسيّين!
     شاعرٌ صديقي الأخير، كالمسيح حين قال: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر
     وكالمسيح المصلوب على خشبة العشق والمطعون بحربة الشكّ، والظمآن إلى نبيذ الأمس وقد صار خلًّا في يد الحقد... سيبحث عني بين الجموع وعيناه تعاتبان: لو لم تغلقي الباب في وجهي لما كنت صُلبت!

     ومن دون أن يسمعني سيعرف أنّ الملاك نفسه الذي بشّر أمّه به، قال لي: تريد منك السماء أن تبتعدي عن طريقه ليبقى هو الطريق...