ليل لبنان بلا صباح



      ارتبط نشوء لبنان بهم، لذلك نخشى على لبنان حين يرحلون.
     لم يخف الفرنسيّون على بلادهم حين مات فنّانوها وفلاسفتها وشعراؤها، فهل ماتت فرنسا بموت إديث بياف مثلًا؟ ولم يخف الأميركيّون على وطنهم حين مات إلفيس بريسلي وسواه، وكذلك بريطانيا حين اغتيل جون لينون...
أمّا نحن فنحصي الراحلين خائفين على من بقي، حتّى لكأنّ لبنان، على الأقلّ لبنان الذي نعرفه ونحبّه، معلّقٌ الآن على أنفاس فيروز وبعدها روميو لحّود وقبلها سعيد عقل، ولكأنّنا حين ندعو لهم بطول العمر ندعو للبنان بالصمود لأطول فترة ممكنة.
    ألا يثير فينا الخوف أن يكون وطننا هشًّا إلى هذه الدرجة، في حين تحفل أدبيّاتنا بالفخر بتاريخه العريق وأمجاده التي لا تعدّ ولا تُحصى؟
     ألا يدعونا للتأمّل كيف أنّ المسيحيّين الذين أسّسوا لهذه النهضة الغنائيّة والشعريّة والفكريّة التي واكبت نشوء لبنان السياسيّ واستقلاله، هم الذين يقفون اليوم على أطلال مجدهم الذي أعطي للشعراء والروائيّين والمؤرّخين والعلماء والمترجمين واللاهوتيّين والصحافيّين والمسرحيّين والموسيقيّين والتشكيليّين، فسرقه، سرق هذا المجد، سياسيوهم وزعماؤهم وباعوه بأبخس الأثمان؟
    فكيف سيكون لبنان من دون هؤلاء الذين رسموه لنا ولوّنوه وغنّوه وأغنوه؟ لعلّ أهميّة صباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وفيلمون وهبي ووليد غلمية وأنسي الحاج ويوسف الخال وبول غيراغوسيان وعصام محفوظ وهند أبي اللمع وأنطوان ريمي وغيرهم وغيرهم أنّهم يذكّروننا بلبنان ما قبل الحرب، بلبنان السلام ولو هشًّا، بلبنان البحبوحة، ولو على أسس واهية، بلبنان الأمن، ولو بضمانة الدول الكبرى... بينما نرى في من يخلفهم إنتاجًا حربيًّا بامتياز، فتبدو لنا ماجدة الرومي من فريق سياسيّ وجوليا بطرس من فريق سياسيّ آخر، وهكذا الآخرون الذين ولدوا في الحرب وكتبوا عن الحرب وأنتجوا أفلامًا ومسرحيّات عن الحرب...

     لذلك نبكي على صباح مع علمنا  بأنّ هذه المرأة المختلفة الشجاعة صار يجب أن ترتاح، وبأنّ الموت الذي يجرف الناس جرفًا لم يبقِ دمعًا في العيون.
     نبكي على حالنا لأنّنا لم نعرف كيف نستمتع بهؤلاء المبدعين والتهينا بأخبار حياتهم الشخصيّة وبترّهات السياسة، ونبكي على مستقبل أجيال لم يروا سوى القهر والغربة والتشرّد والعنف ولن يفهموا لماذا نبكي على امرأة هي في رأيهم عجوز مريضة لم تحسن إدارة أموالها ولم تحرم نفسها من شيء واسمها صباح...