عيد الاستقلال بين تعليم اللغة العربيّة والحركات الأصوليّة

المارينز في بيروت (15 تمّوز 1958)

     تبدأ المدارس اللبنانيّة، مع نهاية شهر تشرين الأوّل، في إعداد تلامذتها للاحتفال بعيد الاستقلال. وفي انتظار ما ستكون عليه الأمور يوم 22 تشرين الثاني من العام 2014، يبدو غريبًا أن يحتفل لبنان، كما يبدو حتّى الآن، بعيد بلا رئيس، وبعسكريّين مخطوفين، لا إلى قلعة راشيّا وتحت حراسة البنادق الفرنسيّة، بل في عرسال وتحت ظلال السيوف الإسلاميّة.
     المضحك المبكي في مؤسّساتنا التربويّة أنّ عيد الاستقلال يُلَزَّم لقسم اللغة العربيّة، على اعتبار أنّ النشيد الوطنيّ باللغة العربيّة، وحكاية الاستقلال لا يمكن أن تروى بلغة المنتدِب الفرنسيّ أو أيّة لغة أجنبيّة أخرى... من هنا، من على مقاعد الدراسة، ومن أصغر الصفوف، يبدأ التشرذم والتقسيم والتفتيت... قسم اللغة العربيّة يعدّ الاحتفال (بمساعدة متواضعة من قسم التاريخ والجغرافية والتربية المدنيّة)، والأقسام الأخرى تقف موقف المتفرّج والمصفّق... وغالبًا المنتقِد... وهكذا تصير الوطنيّة حكرًا على فئة دون أخرى.
     ولكن من جهة أخرى، اللغة العربيّة الفصحية ليست اللغة اليوميّة التي يستخدمها المتعلّمون، ما يعني أنّها هي كذلك لغة أجنبيّة بالنسبة إليهم... أي نحن أمام شرخ آخر يتبدّى في اللغة، يصير النشيد الوطنيّ بلغته (وإن سهلة وبسيطة وغير معقّدة) بسببه عبئًا تربويًّا آخر، يُفرض قصيدة تُشرح وتدرس وتُحفظ... فقط ليوم العيد... وبعد ذلك إلى غياهب النسيان. وكلّ عيد نستعيد الدرس... والوطن ليس بخير. فحين تبدأ المدارس يومها بالدين لا بالوطن، نفهم لماذا هنا بيئة حاضنة، وهناك خلايا نائمة، وهنالك انعزال... باسم الآب والابن والروح في مدرسة، وباسم الله الرحمن الرحيم في مدرسة أخرى... ويصير النشيد أناشيد والعَلم أعلامًا...
     اللغة العربيّة، المرتبطة قواعدُها بلغة القرآن، هي اليوم، في أذهان المتعلّمين، لغة الجهاد والنكاح والذبح وقطع الرؤوس...لا لغة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وطه حسين وعبدالله العلايلي وسعيد تقي الدين... فكيف نقنع تلميذًا بحفظ نشيد بلاده، وبلادُه على كفّ عفريت؟ وكيف نطلب أن يحبّ اللغة العربيّة وهو مهاجر إلى حيث ينال تأشيرة دخول؟ وكيف نقنعه بأنّ الله خير وحقّ وجمال، وأفلام اليوتيوب تؤكّد له لحظة بلحظة أنّ الله بشاعةٌ ودمٌ وذبح حلال؟
      يومًا بعد يوم، يتأكّد لنا بأنّنا بلا هويّة وبلا انتماء! ولم تفعل المناهج التربويّة التي استوردناها سوى تغريبنا عن تاريخنا وجغرافيتنا وتراثنا وتقاليدنا (لأنّنا نسخنا ما فيها بلا تمحيص أو تدقيق)... وجعلِ تلامذتنا جرذانًا في مختبرات التجارب: مرّة من فرنسا، ومرّة من أميركا، ومرّة من كندا، ومرّة من السويد... فيأتي الاستقلال مزحة سمجة، لا يتربط الاحتفال به بما قبله أو بما بعده...

     وما بين عروبة أثبتت خواءها الفكريّ والروحيّ والعلميّ، وفَرْنَجَةٍ لا شكّ في أهدافها الاستعماريّة (بكلّ الوسائل والأساليب وفي المجالات كلّها)، وفي غياب الحسّ النقديّ المتجلّي في منع التلامذة من الكلام في الفكر السياسيّ، وعدم وجود حصص مدرسيّة للحضارة والثقافة، ومنابر للحوار، وندوات للنقاش... سيمضي المعلّمون شهرًا يحاولون فيه أن يجدوا أجوبة مقنعة لهم قبل غيرهم عن أسئلة من نوع:
     لشو بدنا نتعلّم عربي؟ لشو بدنا نحتفل بعيد الاستقلال؟ ضروري نحفظ النشيد الوطنيّ؟؟